1976-1959: وضع اللبنات الأساسية للامركزية

 فالمغرب بلد يتميز بتجربة طويلة في ميدان تدبير الشأن المحلي، حيث يعود أصل اللامركزية حسب المؤرخين إلى عهود قديمة، ويستحضرون في هذا الشأن القوانين العرفية و أشكال التنظيم الجماعي التي سادت إلى غاية تبني الجماعات في شكلها الحالي. بيد أن نظام اللامركزية الحقيقي لم ير النور إلا بعد الاستقلال. وقد خضع باستمرار لعدد من التعديلات الهادفة إلى ترسيخ ديمقراطية القرب تدريجيا. 

وبالفعل، فاللامركزية هي واقع معاش حيث تم توسيع حقل اختصاصات الهيآت المنتخبة و أصبحت الجماعة المحلية تفرض وجودها كشريك لا غنى عنه. إلا أن ممارسة اللامركزية و تطور السياق الوطني و كذا الدولي يغذيان تطلعات جديدة، و بالتالي يظهران بعض النواقص التي قد يساهم تجاوزها، بدون شك، في الارتقاء بالتجربة الوطنية إلى مستوى أفضل. 

ان المغرب اليوم يعرف دينامية متجددة، و هو عازم على استثمار الفرص التي يتيحها سياق العولمة، ولذلك بادر بفتح مجالات كبيرة من اقتصاده، متطلعا بذلك لأن يصبح فضاءا دوليا للتبادل والإنتاج والتوزيع، و يتعبأ لإرساء تماسك اجتماعي و ذلك عن طريق محاربة كل أشكال الفقر والتهميش و الإقصاء. 

وإيمانا منه بفضائل اللامركزية تم تفعيل جيل جديد من الإصلاحات التي تهدف إلى تحسين الحكامة المحلية، و جعل تدخلات الجماعات أكثر مهنية ودعم قدراتها في ميادين الإشراف على المشاريع والتفاعل مع محيطها.

تلك هي المحاور الأساسية للإصلاحات التي ستطبع المرحلة الجديدة للامركزية والتي تهدف إلى إعادة تموقع الجماعة خاصة في مهامها المتمثلة في تقديم خدمات للمواطن و تنشيط التنمية المحلية.

تعتبر سنة 1959 سنة مرجعية في تاريخ اللامركزية بالمغرب، حيث عرفت بوضع اللبنات الأولى للتنظيم الجماعي خاصة عن طريق المصادقة على الظهير المؤرخ في 2 دجنبر 1959 بمثابة التقسيم الإداري للمملكة، والذي أسفر لأول مرة عن احداث 108 جماعة حضرية وقروية. إلا أن سنة 1960 عرفت العديد من الإصلاحات وشكلت الانطلاقة الأساسية للامركزية بالمغرب.

و بالفعل، فبتاريخ 23 يونيو 1960، تم اعتماد أول ميثاق جماعي يعلن عن نظام تمهيدي لنظام اللامركزية، مع اختصاصات محدودة وجهاز تنفيذي مزدوج ووصاية قوية. وقد تزامن هذا المسلسل مع وضع أول دستور للمملكة سنة 1962، الذي كرس وجود الجماعات المحلية وفتح آفاقا جديدة لنظام اللامركزية وذلك بإحداث جماعات محلية جديدة، ويتعلق الأمر بالعمالات و الأقاليم.

ومنذ سنة 1975، أعلن المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله عن رغبته السامية في توسيع حقل اختصاصات و مسؤوليات المنتخبين و ذلك بإعطاء المزيد من الإمكانات للمسؤولين المحليين واعدا بمرحلة جديدة في تدعيم الديمقراطية المحلية. وبعد مرور سنة على ذلك، تم إلغاء الميثاق الجماعي الأول ووضع إطار جديد للممارسة الجماعية. حيث شكل تبني الميثاق الجماعي لسنة 1976 منعطفا تاريخيا و مرحلة جديدة في مجال اللامركزية.

وهكذا أسندت للجماعة التي تعتبر أساس ممارسة ديمقراطية القرب اختصاصات جد واسعة، وتم تعزيز دورها الاقتصادي والاجتماعي و الثقافي وإلغاء نظامها المزدوج وتخفيف الوصاية عليها. وبصفة عامة فقد شكل التنصيص على دور الجماعة الاقتصادي بدون شك أبرز مظاهر هذا الإصلاح.

علاوة على الاختصاصات الموسعة التي جاء بها الميثاق الجماعي، فقد أولى اهتماما كبيرا لتدبير الشأن المحلي والذي يترجم سلسلة الإصلاحات التي تلته في اتجاه تعزيز وسائل اللامركزية، خاصة من خلال تحويلات الضريبة على القيمة المضافة، و تبني نظام جبائي محلي وتخلي الدولة عن بعض الضرائب لفائدة الجماعات المحلية.